قراءة القرآن على الميت أثناء الدفن وبعده.. الإفتاء تكشف الحكم
قراءة القرآن على الميت أثناء الدفن وبعده، عن هذه المسألة استقبلت دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول "ما حكم قراءة القرآن الكريم على الميت أثناء الدفن وبعده؟
قراءة القرآن على الميت
وأجابت دار الإفتاء، أنه يُستحب قراءة القرآن الكريم على الميت عند القبر حالة الدفن وبعده؛ استلالًا بالأحاديث الواردة عن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والآثار الواردة عن السلف الصالح في خصوص ذلك، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيل وخلفًا عن سلف؛ فإنَّهم يجتمعون ويقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير.
وذكرت أن قراءة القرآن الكريم للميت أو على القبر: فقد جاء الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرر أنَّ الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قراءة القرآن الكريم عند القبر
وأوضحت، أن قراءة القرآن الكريم عند القبر حالة الدفن وبعده مشروعة ابتداءً بعموم النصوص الدالة على مشروعية قراءة القرآن الكريم، بالإضافة إلى أنَّه قد وردت أحاديث عن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وآثار كثيرة عن السلف الصالح في خصوص ذلك؛ ذكرها الإمام أبو بكر الخلال الحنبلي [ت: 311هـ] في جزء "القراءة على القبور" من كتاب "الجامع"، ومثلُه الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزء أَلَّفه في هذه المسألة، والإمام القرطبي المالكي [ت: 671هـ] في كتابه "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، والحافظ السيوطي الشافعي [ت: 911هـ] في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، والحافظ السيد عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري [ت: 1413هـ] في كتابه "توضيح البيان لوصول ثواب القرآن"، وغيرهم ممَّن صنف في هذه المسألة.
1- فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك: ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجلاجِ، عن أبيه قال: قال لي أبي -اللَّجلاجُ أبو خالد-: "يَا بُنَيَّ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَلْحِدْنِي، فَإِذَا وَضَعْتَنِي فِي لَحْدِي فَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، ثُمَّ سِنَّ عَلَيَّ الثَّرَى سنًّا -أي ضَعه وضعًا سهلًا-، ثُمَّ اقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِي بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ" أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال الهيثمي: ورجاله موثوقون. وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، كما أخرجه الخلال في جزء "القراءة على القبور" والبيهقي في "السنن الكبرى" وغيرهما، وحسّنه النووي وابن حجر.
2- وجاءت السنَّة بقراءة سورة يس على الموتى في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
قراءة سورة الفاتحة على الجنازة
3- كما جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على الجنازة؛ وذلك لأنَّ فيها من الخصوصية في نفع الميت، وطلب الرحمة والمغفرة له ما ليس في غيرها، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضٌ» رواه الدارقطني وصححه الحاكم، وبوَّب لذلك الإمام البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب قِراءةِ فاتِحةِ الكِتابِ على الجَنازةِ)، وهذا أعم من أن يكون في صلاة الجنازة أو خارجها؛ فمن الأحاديث ما يدل على أنَّها تُقرأ في صلاة الجنازة، ومنها ما يدل على أنَّها تُقرأ عند الدفن أو بعده ؛كحديث ابن عمر السابق عند الطبراني وغيره، ومنها ما يدل بإطلاقه على كلا الأمرين؛ كحديث أم عفيف النهدية رضي الله عنها قالت: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حِينَ بَايَعَ النِّسَاءَ؛ فَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا تُحَدِّثْنَ الرَّجُلَ إِلَّا مُحْرِمًا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَقْرَأَ عَلَى مَيِّتِنَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، وحديث أم شريك رضي الله عنها قالت: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رواه ابن ماجه.
4- واستدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا؛ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا، فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» متفق عليه.قال الإمام الخطّابي فيما أورده عنه الحافظ العيني في "عمدة القاري" (3/ 118، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه دليلٌ على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنَّه إذا كان يُرْجَى عن الميت التخفيفُ بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أكبرُ رجاءً وبركة] اهـ.
5- وقد صلى النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم صلاة الجنازة على القبر غير مرة كما جاء في "الصحيحين" وغيرهما، والصلاة مشتملة على قراءة الفاتحة، والصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والذكر، والدعاء، وما جاز كله جاز بعضه.
كما أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت من جواز الحج عنه ووصول ثوابه إليه؛ لأنَّ الحج يشتمل على الصلاة، والصلاة تُقرأ فيها الفاتحة وغيرها، وما وصل كله وصل بعضه، وهذا المعنى الأخير وإن نازع فيه بعضهم إلا أنَّ أحدًا من العلماء لم يختلف في أنَّ القارئ إذا دعا الله تعالى أنْ يهب للميت مثل ثواب قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله؛ لأنَّ الكريم إذا سُئِل أعطى وإذا دُعِيَ أجاب.
6- وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيل وخلفًا عن سلف من غير نكير، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة، حتى نقل الإمام موفق الدين بن قدامة الحنبلي في كتابه "المغني" (2/ 424، ط. مكتبة القاهرة) الإجماع على ذلك فقال: [ولنا ما ذكرناه، وأنه إجماع المسلمين؛ فإنَّهم في كل عصرٍ ومصرٍ يجتمعون ويقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، ولأنَّ الحديث صح عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة] اهـ.
وقد نص أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك:
فجاء في "الفتاوى الهندية"على مذهب الحنفية (1/ 166، ط. دار الفكر): [ويُستحب إذا دُفِن الميت أن يجلسوا ساعة عند القبر بعد الفراغ بقدر ما يُنحَر جَزُور ويقسم لحمها؛ يَتلُونَ الْقُرْآنَ، ويَدعُون للميت] اهـ، وذكر أن ذلك قول الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وأنَّ مشايخ الحنفية أخذوا به.
وأما المالكية: فالمُعتَمَدُ عندهم استحبابُ ذلك؛ ففي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 423، ط. دار الفكر): [ذهب ابن حبيب إلى الاستحباب، وتأوَّل ما في السماع من الكراهة قائلا: إنما كره ذلك مالك إذا فعل ذلك استنانًا، نقله عنه ابن رشد، وقاله أيضًا ابن يونس، واقتصر اللخمي على استحباب القراءة ولم يُعَوِّل على السماع، وظاهر "الرسالة" أن ابن حبيب يستحب قراءة يس، وظاهر كلام غيرهما أنَّه استحب القراءة مطلقًا] اهـ.
أما الشافعية: فقد قال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 311، ط. المنيرية): [قال أصحابنا: ويُستحب للزائر أن يُسلِّم على المقابر، ويدعو لمَن يزوره ولجميع أهل المقبرة، والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما ثَبَتَ في الحديث، ويُستَحَبُّ أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر ويدعو لهم عقبها، نصَّ عليه الشافعيُّ، واتفق عليه الأصحاب] اهـ، وقال في "الأذكار" (ص: 161-162، ط. دار الفكر): [ويُستَحَبُّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعةً قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأحوال الصالحين.. قال الشافعي والأصحاب: يُستحب أن يقرؤوا عنده شيئًا من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كله كان حسنًا] اهـ، وقال في "رياض الصالحين" (ص: 295، ط. الرسالة): [قال الشافعي رحمه الله: ويُستحب أن يُقرأ عنده شيءٌ من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا] اهـ.
وكذلك الحنابلة صرحوا بجواز ذلك؛ قال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (2/ 557، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: (ولا تُكرَه القراءة على القبر في أصح الروايتين)، وهذا المذهبُ، قاله في "الفروع"، ونصّ عليه -يعني الإمام أحمد-، قال الشارح: هذا المشهور عن أحمد، قال الخلال وصاحبُه: المذهب رواية واحدة: لا تكره، وعليه أكثر الأصحاب منهم القاضي، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدّمه في "الفروع"، و"المغني"، و"الشرح"، و"ابن تميم"، و"الفائق"، وغيرهم] اهـ.
حتى إنَّ الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى -وهو الذي ادّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف- قد ذكر أهل السير في ترجمته أن النَّاس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم؛ كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره، والتاريخ محنة المذاهب كما يقولون.